الصفحة الرئيسية || فهرس كتاب علم الكلام || فهرس الكتب

علم الكلام

                                                                                                                                                                                          
 

بيان علم الكلام الممدوح وعلم الكلام المذموم


اعلم أن العاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول ويعرضه على الكتاب والسُّنة، فإن كان الكلام ‏معقولا ‏في نفسه مؤيداً بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة فلِمَ ينبغي أن يهجر ويترك وإن لم ‏يتكلم به ‏الصحابة والتابعون، وإن كان الكلام باطلاً يُرد ولا يلتفت إليه، لذلك قال الإمام الحافظ ابن ‏عساكر في ‏كتابه الذي ألّفه في الدفاع عن الإمام الأشعري وبيَّن فيه كذب من افترى عليه ما نصّه ‏‏(1): "والكلامُ ‏المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع المُرْدية، فأما الكلام الموافق ‏للكتاب والسنّة ‏الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد ‏كان الشافعي يحسنه ‏ويفهمه، وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع، وأقام الحجة عليه حتى انقطع " ‏اهـ.‏

وقال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان (2) في باب القول في إيمان المقلّد والمرتاب ما نصه: " أخبرنا ‏أبو ‏طاهر الفقيه، أنبأنا أبو بكر محمد ابن الحسين القطان، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا محمد ‏بن ‏يوسف الفريابي، حدثنا سفيان، عن جعفر ابن برقان، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه ‏سأله ‏رجل عن شيء من الأهواء فقال: "عليك بدين الأعرابي الغلام في الكُتَّاب وَالْهُ عمن سوَاه ".‏

قال الإمام البيهقي رحمه الله: "وهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز قاله غيره من السلف فإنما هو لأنهم ‏رأوا ‏أنه لا يحتاج إليه لتبيين صحَّة الدين في أصله، إذ كان رسول الله صلى‎ ‎الله عليه وسلم إنما بُعِثَ ‏مؤيداً ‏بالحُجج فكانت مشاهدتُها للذين شاهَدُوها، وبلاغُها المستفِيضُ ومن بَلغَه كافياً في إثبات ‏التوحيد والنُّبُوَّة ‏معاً عن غيرها، ولم يأمَنُوا أن يوسع الناس في علم الكلام، وأن يكون فيهم مَن لا ‏يكملُ عقلهُ ويضعُفُ ‏رأيُه فيرتبك في بعض ضلالة الضالين وشُبَه الملحدين، ولا يستطيع منها مَخْرجاً ‏كالرجل الضعيف غير ‏الماهر بالسباحة إذا وَقع في ماءٍ غامرٍ قويّ لم يُؤمَنْ أن يَغرق فيه ولا يقدر على ‏التخلُّص منه، ولم يَنْهَوا ‏عن علم الكلام لأنَّ عينه مذموم أو غير مفيد‎;‎‏ وكيف يكون العلم الذي ‏يُتوصل به إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ ‏وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبيّ الصادق وبين المُتَنَبّىء ‏الكاذب عليه مذموماً أو مرغوباً عنه؟ ‏ولكنهم لإشفاقهم على الضُّعفاء لئلا يبلغوا ما يريدون منه ‏فيضِلُّوا نَهَوْا عن الاشتغال به. ثم بسط الحليمي ‏رحمه الله تعالى الكلام في التحريض على تعلُّمه إعداداً ‏لأعداء الله عزّ وجل.‏

وقال غيره في نهيهم عن ذلك إنما هو لأن السَّلف من أهل السُّنَّة والجماعة كانوا يكتفون بمعجزات ‏الرسل ‏صلوات الله عليهم على الوجه الذي بيَّنا، وإنما يشتغِلُ في زمانهم بعلم الكلام أهلُ الأهواء، ‏فكانوا يَنْهَون ‏عن الاشتغال بكلام أهل الأهواء. ثم إنَّ أهل الأهواء كانوا يَدَّعون على أهل السُّنَّة أنَّ ‏مذاهبهم في ‏الأصول تخالف المعقول، فقيَّض الله تعالى جماعة منهم للاشتغال بالنظر والاستدلال حتى ‏تَبحروا فيه، وبينوا ‏بالدلائل النيرة والحجج الباهرة أن مذاهب أهل السنَّة توافق المعقول كما هي ‏موافقة لظاهر الكتاب ‏والسنّة، إلا أنَّ الإيجاب يكون بالكتاب والسنّة فيما يجوز في العقل أن يكون ‏غير واجب دون العقل، وقد ‏كان من السلف من يشرع في علم الكلام ويَرُدّ به على أهل الأهواء" ‏انتهى كلام الحافظ البيهقي.‏

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي في تعليقه على "بيان زغل العلم " ما نصه (3): "والحق أن ‏‏عقيدة السنة في الإسلام واحدة سلفاً وخلفاً لا تتغير ولا تتبدل بل الذي يتجدد هو طريق الدفاع ‏عنها ‏بالنظر لخصومها المتجددة، وذم علم الكلام ممن كان في موضع الإمامة من السلف محمول حتماً ‏على ‏كلام أهل البدع وخوض العامي فيه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وأجاد: لا يجحد علم ‏الكلام إلا ‏أحد رجلين جاهل رَكَنَ إلى التقليد وشقَّ عليه سلوك طرق أهل التحصيل وخلا عن طرق ‏أهل النظر ‏والناس أعداء ما جهلوا فلما انتهى عن التحقق بهذا العلم نهى الناس ليضل كما ضل، أو ‏رجل يعتقد ‏مذاهب فاسدة فينطوي على بدع خفية يلبس على الناس عوار مذهبه ويعمى عليهم ‏فضائح عقيدته ويعلم ‏أن أهل التحصيل من أهل النظر هم الذين يهتكون الستر عن بدعه ويظهرون ‏للناس قبح مقالاته، ‏والقلاب لا يحب من يميز النقود والخلل فيما في يده من النقود الفاسدة كالصراف ‏ذي التمييز والبصيرة ‏وقد قال تعالى: ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{9} [سورة ‏الزمر]"اهـ.‏


‏(1) تبيين كذب المفتري (ص/339). ‏
‏(2) شعب الإيمان (1/ 95- 96).‏
‏(3) بيان زغل العلم والطلب (ص/ 22).‏