الصفحة الرئيسية || فهرس كتاب علم الكلام || فهرس الكتب

علم الكلام

                                                                                                                                                                                          
 

بيان منهج علماء الكلام في تقرير العقيدة


اعلم أن أصول التوحيد وسائر أمور العقيدة الحقة قامت على حقيتها حجج الكتاب والسنة الواضحة ‏‏وإجماع الأمة الهادية، وبراهين العقول المستقيمة التي هي شاهدة للشرع وذلك مما اختص به الإسلام ‏من ‏بين الأديان لأنه لم يأت بشىء إلا والعقل شاهد له، أما سائر الأديان فعلى خلاف ذلك، لذا ‏كانت ‏مصنفات أهل الحق في ترتيب الأدلة للرد على المبتدعة والملحدين والمنحرفين مبنية على ما ‏ذكرنا، وتفصيل ‏ذلك ما يلي:‏

ا- القرءان: وهو أصل الحجج وبه تثبت الرسالة وقامت الحجة على دحض الضلال، وهو المهيمن ‏على ‏الكتب السماوية، وبه يميّز الحق من الباطل، وقد أمر الله برد المتنازع فيه إليه وإلى رسوله صلى ‏الله عليه ‏وسلم، قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ{59}) [سورة النساء]، ‏والرد إلى الله ‏هو الرد إلى القرءان، والرد إلى الرسول هو الرد إلى الأحاديث الصحاح الثابتة عن ‏رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم.‏

‏2- السُّنة: اعلم أن الاحتجاج بالحديث في أمور الاعتقاديات يشترط فيه أن يكون الراوي متفقاً على ‏‏ثقته أي أن يرد الحديث بإسناد غير مختلف فيه كما ذهب إلى ذلك أهل التنزيه من المحدَثين والفقهاء، ‏فلا ‏يكفي الاحتجاج بالحديث الذي ورد من طريق ضعيف لو اعتضد كما قال الحافظ ابن حجر ‏العسقلاني ‏في "شرح صحيح البخاري "، ونص عبارته (1): "لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق ‏نسبته إلى الرب ‏ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت " ‏اهـ، أي لا يكفي ‏ذلك في مسائل الاعتقاد.‏


وذكر الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقّه " ما نصه:"‏

"والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق ‏على ‏توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُخْتَلَف ‏فيه وجاء ‏حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتَجُّ به" اهـ.‏

وقد نقل البيهقي في "الأسماء والصفات " (2) عن أبي سليمان الخطابي أنه لا تثبت لله صفة إلا ‏بكتاب ‏ناطق أو خبر مقطوع بصحته.‏

وكذلك يحتج بالحديث المتواتر وهو أعلى درجات الحديث الصحيح، والمتواتر هو ما أخبر به جمع ‏كثير ‏عن مشاهدة وإحساس واستمرت هذه الكثرة في الطبقة الأولى وهي التي شاهدت المخْبِرَ به ‏والثانية ‏والثالثة، فهذا الخبر لا يحتمل الكذب.‏

وأمّا ما نزل عن التواتر فهو مستفيض ويقال له المشهور، ومنه ما هو دون ذلك، فالمستفيض الذي هو ‏‏المشهور حجة في الاعتقاديات لإفادته العلم كالمتواتر، والمشهور هو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر، ‏وقد ‏اشترط أبو حنيفة وأتباعه من الماتريدية أن يكون الحديث في درجة المشهور للاحتجاج به في ‏أمور ‏العقيدة، واحتج في رسائله التي ألفها في الاعتقاد بنحو أربعين حديثاً من قبيل المشهور جمعها ‏كمال الدين ‏البياضي.‏

وأما ما نزل عن ذلك فلا يحتج به لإثبات الصفات.‏

‏3- الإجماع: وهو إجماع أهل الحق في مسئلة دينية، فالأصل الذي يبنى عليه إثبات قدم صفات الله ‏تعالى ‏هو الإجماع القطعي، قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: "اعلم أن حكم الجواهر ‏والأعراض كلها ‏الحدوث فإذاً العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف ‏في هذا فهو كافر ‏لمخالفته الإجماع القطعي"اهـ، انظر"إتحاف السادة المتقين " (3).‏

‏4- العقل: اعلم أن الله تبارك وتعالى حث عباده في القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال ‏‏تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ {185}) [سورة الأعراف]، وقال تعالى: ( ‏‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ {53}) [سورة فصلت]،. وعلماء ‏‏التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتماداً على مجرد النظر بالعقل، بل ‏يتكلمون ‏في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏فالعقل عند ‏علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلاً للدين، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما ‏جاء به الشرع ‏ولا يتناقض معه.‏

واعلم أيضاً أن علماء الحديث ذكروا أن الحديث إذا خالف النص القرءاني أو الحديث المتواتر أو ‏صريح ‏العقل ولم يَقبل تأويلاً فهو باطل، وذكر ذلك الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج ‏الدين ‏السبكي في جمع الجوامع وغيره.‏

وقال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه " ما نصه (4): "وإذا روى الثقة ‏المأمون ‏خبراً متصل الإسناد رُد بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع ‏إنما يَرِد ‏بمجوَّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا" اهـ.‏

وليُعلم أن العقل مفيد للعلم خلافاً للسُّمَّنية في جميع النظريات وبعض الفلاسفة في الإلهيات. فإن قيل: ‏لو ‏كان هذا يفيد العلم القطعي لتحقق في كل من نظر فيه والواقع خلاف ذلك فإن كثيراً من ‏الناظرين فيه لا ‏يتحقق لهم ذلك العلم القطعي، فالجواب أن يقال: إنما لم يحصل لهم العلم به لفساد ‏نظرهم، وأما النظر ‏الصحيح هو الذي استوفى شرط النظر فهو في حد ذاته مفيد للعلم القطعي.‏

تنبيه: قال الشيخ شرف الدين التلمساني في شرح لمع الأدلة (5) ما نصه: "إن الشرع إنما ثبت بالعقل ‏فلا ‏يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل، فإذا تقرّر هذا ‏فنقول: ‏كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات مما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن ‏يكون ‏متواتراً أو ءاحاداً، فإن كان ءاحاداً وهو نص لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو ‏غلطه، ‏وإن كان ظاهراً فالظاهر منه غير مراد، وإن كان متواتراً فلا يتصور أن يكون نصّاً لا يحتمل ‏التأويل فلا ‏بُد أن يكون ظاهراً أو مُحْتَمِلاً فحينئذ نقول: الاحتمال الذي دل العقل على خلافه ليس ‏بمراد منه، فإن ‏بقي بعد إزالته احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال، وإن بقي احتمالان فصاعداً ‏فلا يخلو إما أن يدل ‏قاطع على تعيين واحد منها أو لا، فإن دَلَّ حُمل عليه، وإن لم يدل قاطع على ‏التعيين فهل يعين بالظن ‏والاجتهاد؟ اختلف فيه فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد" اهـ.‏

وقول ابن التلمساني إن مذهب السلف عدم التعيين لعله يريد بذلك عدم كثرة ذلك بالنسبة للخلف ‏وإلا ‏فقد ثبت عن السلف كما ثبت عن الخلف، فمن نفى التأويل عن السلف غالط لثبوت ذلك عن ‏أحمد ‏بالإسناد الصحيح، وكذلك ثبت عن الإمام البخاري وغيرهما.‏

‏(1)‏ فتح الباري (1/ 174).‏
‏(2)‏ الأسماء والصفات (ص/ 335).‏
‏(3)‏ إتحاف السادة المتقين (2/ 94).‏
‏(4)‏ الفقيه والمتفقه (ص/ 132).‏
‏(5)‏ شرح لمع الأدلة (ص/ 76)، مخطوط.‏