الصفحة الرئيسية || فهرس كتاب حقيقة الصوفية || فهرس الكتب

الصوفية

                                                                                                                                                                                          
 

تمهيد في التصوف ‏


تمهيد في التصوف   ‏

التصوف مرتبة عالية وهو إصلاح القلب بالوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا، فهو ‏مبني على الكتاب والسنة وذلك باتباع شرع الله تعالى والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ‏الأخلاق والأحوال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأفعال، وتسليم الامور كلها ‏لله من غير إهمال في واجب ولا مقاربة محظور، وحاصله اتصاف بالمحامد وترك للأوصاف ‏الذميمة       ‏         ‎

فهو مسلك قائم على العلم والعمل، أعلاه علم التوحيد وأداء الواجبات قبل النوافل ثم عمل ‏البر والخير و الزهد والتحلي بالأخلاق الحسنة ‏. ‎

قال الله تعالى :﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ‏يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) ﴾ ‏‏[سورة السجدة] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: [إياك و التنعم فإن عباد الله ‏ليسوا بالمتنعمين] رواه الطبراني‎ ‎

 

وقد اشتهر حديث عند الصوفية وهو حديث حارثة بن مالك أن الرسول عليه السلام لقيه ‏ذات يوم فقال له: [كيف أصبحت يا حارثة] قال أصبحت مؤمنا حقا. فقال له: [ انظر ما ‏تقول فإن لكل قول حقيقة ] قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ‏فكأني بعرش ربي بارزا وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني بأهل النار يتعاوون فيها، ‏قال: [عرفتَ فالزمْ، عبدٌ نوَّر اللهُ الإيمانَ في قلبهأخرجه الطبراني.

 

وهذا الحديث متداول بين الصوفية، وإن كان هذا الحديث ضعيفا ضعْفا خفيفا فقد ذُكر في ‏فضائل الأعمال، ويُعمل به كما ذكر السيوطي في تدريب الراوي وغيرُه. ‎

 

فهذا هو مشرب القوم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في حاله وخُلُقِهِ، وكان عليه الصلاة ‏والسلام خلقُه القرآن، وكان أكثر الناس تواضعا وزهدا، وكان أعفَّ الناس، مَنْ صحِـبه ‏أحبه لما يشاهده من محاسن أخلاقه ومزيد شفقته وتواضعه وباهر عُظم تألفه وأخذه بالقلوب. ‎

 

وكان صلى الله عليه وسلم يمشي مع المسكين والأرملة إذا أتياه في حاجة ما، يفعل ذلك من ‏غير أنفة. وكان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه ولا يعيبه ذلك، ويكون ‏في مهنة أهله، وكان يردف خلفه عبده أو خادمه أو قريبه يفعل ذلك على دابته، وكان يجالس ‏الفقراء والمساكين والعبيد والإماءَ ويعُودهم ويزورهم، ويتفقد حالهم، ويشهد جنائزهم، وما ‏سُئل عليه الصلاة والسلام شيئا من متاع الدنيا يُباح إعطاؤه فقال لا، وكان يجلس في الأكل ‏مع الفقراء والمساكين، وكان لا يعيب طعاما قطُّ بل إن أحبَّه أكله وإن كرهَه تركَه، وكان ‏يلبس من الثياب ما وجده من إزار وقميص وجبة صوف، وربما يلبس الإزار وحده ليس عليه ‏غيره، وربما كان عليه مِرط [(1)] من صوف أو خز، ففي سنن أبي داود: [خرج علينا ‏رسول الله وعليه مِرط مرحل [(2)] من شعر أسود]. وربما صلى بثوب واحد ملتحفا به بغير ‏زائد عليه، وكان لا يسيل القميص ولا الإزار أي لا يرسلهما إلى الأرض بل يجعل الإزار ‏والقميص فوق كعبيه، بل ربما كان إزاره وقميصه لنصف الساق، يفعل ذلك تواضعا، وربما ‏نام على العباءة يثنيها ثنيتين، وربما نام على الحصير ويؤثـّر الحصير في جنبه الشريف، فقد ‏اخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ‏راقد على حصير من جريد وقد أثر في جنبه، فبكى عمر فقال له: [ما يبكيك؟] قال: ذكرتُ ‏كسرى وملكه، وهرمز وملكه، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلى الله عليك ‏وسلم على حصير من جريد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما ترضى أن لهم ‏الدنيا ولنا الآخرة]. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، ‏والوارد عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك كثير. وقد قال عليه الصلاة والسلام: [كن في الدنيا ‏كأنك غريب أو عابر سبيل وقال: [ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي، ما أنا إلا كراكب ‏استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها]. فعلى هذا كان سيدنا وقدوتنا رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم. ‎

 

ومثله ورد عن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فقد ورد عن نبي الله عيسى عليه السلام فيما ‏رواه الحسن البصري قال: [كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر ](3)[ ويأكل الشجر، ‏ويبيت حيث أمسى]. وكان سيدنا عيسى عليه السلام يبيت حيث أمسى في مسجد أو غير ‏مسجد، ما اتخذ بيتا، وكان يأكل ما يُتقوَّت به من بقول الأرض كالملوخية والهندباء والخبيزة ‏نيئة من غير طبيخ. هكذا أنبياء الله عليهم السلام زهَّاد عُبَّاد عارفون طالبون للآخرة، وكذلك ‏نبي الله سليمان عليه السلام معَ ما أعطاه الله من السلطان والجاه وخدمة الجن له كان ياكل ‏خبز الشعير. ‎

 

على هذا كان أنبياء الله عليهم السلام وعلى هذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ‏الذي أدَّب المتقين، وعلَّم الزاهدين، ووطّد الدين، ونُصر بالرعب مسيرة شهر، وضجت ‏الأكوان باسمه، ورجفت فرائص ملوك الأرض لذكره في كل زمان ومكان، وقد مات عليه ‏الصلاة والسلام ولم يشبع من خبز الشعير، مع أنه أعطى ما بين لابتيها [(4)] غنما، وملأ ‏رداء عمه العباس ذهبا، وأعطى عطاءَ من لا يخشى الفقر، فالله أكرم أنبياءه، واصطفاهم لمقام ‏النبوة، وخصهم بما لم يخص به أحدا من البشر، وأغناهم عن الناس، فسلموا لله تسليما كاملا، ‏واستغنوا بالله، وأيقنوا أنه المالك الكريم الرازق الخالق المدبر لمخلوقاته في كل حين، فأنفقوا ولم ‏يقتروا، وأيقنوا أن كُـلاّ ً من عنده، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أَوَليس قال ‏عليه الصلاة والسلام لبلال: [أنفق بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا] رواه الطبراني وأبو ‏نعيم. ‎ ‎

 

وتبع أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المشرب، وردَّ أهل الردة على أعقابهم، ونام على ‏قطيفة لم يكن عنده في البيت سواها، ثم أمر بها فأعيدت إلى بيت المال. وكذلك الفاروق عمر ‏رضي الله عنه فتح الأقطار، ومصَّر الأمصار، وعزّ به الدين واستنار، وخطب عام وفاته وعليه ‏ثوب فيه أربعون رقعة. ‎

 

وهذا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد رُوِيَ أنه رُؤي يقيل في المسجد وهو ‏يومئذ خليفة وأثر الحصى في جنبه، وكذلك أبو الحسنين علي الأكرم عليه السلام وهو الذي ‏رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما على التراب مرة فسماه أبا تراب، وكان كرم الله ‏وجهه يلبس إزارا مرفوعا ويقول: "يُخشّع القلب، ويقتدي به المؤمن". ‏

وتبعهم على ذلك أهل الولاية والإرشاد من التابعين الأمجاد، فكان لهم من نورهم قبس، ومن ‏حال نبيهم صلى الله عليه وسلم نفس، ودلوا المسلمين على المنهج القويم، والصراط المستقيم، ‏وعلى مشرب نبيهم وجليل حاله، وغيرهم كثير ولو أردنا ذكرهم لطال. ‎ 

وقد قال الحسن البصري: أدركت سبعين بدريا ما كان لباسهم إلا الصوف. ‎

 

وكلهم من رسول الله ملتمسُ ... غرفـًا من البحر أو رشفا من الديَمِ‎ ‎

 

يقول العارف بالله الزاهد العلامة الشيخ عبدالله الهرري ناصحا مريديه: "إياكم والغفلة بالتنعم ‏وتعلق الهمم بتكثير الأموال". والتنعم هو التوسع في الملذات من المطعومات والمشروبات ومن ‏الملبس الفاخر، وتركُ التنعم هو سنة الأنبياء. ‎

 

واعلم أن معنى التصوف الحقيقي كان في الصدر الأول من عصر الصحابة، فالخلفاء الأربعة ‏كانوا صوفيين معنى، واعلم أن صاحب كتاب حلية الأولياء الحافظ أبو نعيم أحد مشاهير ‏المحدثين بدأ كتابه الحلية بصوفية الصحابة، ثم أتبعهم بصوفية التابعين، وهكذا. فإذا رمتَ ‏معرفة حقيقة القوم والتيقن من صدق حالهم وصفاء مشربهم، فهاك ما ذكرناه لك، فتأمل.